وريقاتي

Powered By Blogger

6 يناير 2013

صفة الحنين إلى الصديق


من كتاب (الصداقة والصديق) لأبي حيان التوحيدي

صفة الحنين إلى الصديق

حدثني أبو حامد العلوي - وكان من الحجاز- سنةَ سبعين وثلاثمئة، بمدينة السلام؛ قال:
رمى أعرابي من بني هلال عن حيه إلى أطراف الشام، فقيل له: من خلّفتَ وراءك؟ قال: خلفت والدًا، ووالدة، وأختًا، وابن عم، وبنت عم، وعشيقًا، وصديقًا. قيل له: فكيف حنينك إليهم؟ قال: أشد الحين. قيل: فصفْه لنا.
قال: أما حنيني إلى والدي، فللتعزز به؛ فإن الوالد عضدٌ وركن يعاذ به، ويؤوى إليه. وأما شوقي إلى الوالدة؛ فلشفقة المعهودة منها.وأما شوقي إلى الأخت فللصيانة لها والتروح إليها. وأما شوقي إلى ابن العم؛ فللمكانة له والانتصار به. وأما ابن العم؛ فلأنها لحم علي وَضَم[1]، أتمنى أن أشبل[2] عليها بالرقة أو أصلها ببعض من يكون لها كفؤًا، ويكون لنا أيضًا إلفًا. وأما صبابتي بالعشيق؛ فذاك شيء أجده بالفطرة والارتياح الذي قلما يخلو منه كريم له في الهوى عرق نابض، وفي المجون جواد راكض.
وأما الصديق؛ فوجْدي به فوق شوقي إلى كل من نعته لك؛ لأني أباثه بما أجُلُّ أبي عنه، وأجبأ[3] من أمي فيه، وأطويه عن أختي خجلًا منها، وأداجي[4] ابن عمي عليه خوفًا من حسد قد يفقأ ما بيني وبينه، وأكني عن بنت عمي بغيرها؛ لأنها شقيقة ابن عمي، ومعها نصف ما معه. وهي من الشجرة التي تلفّنا أغصانها، وتلقي علينا أفنانها، ويجمعنا ظلها. فأما العشيقة فقصاري[5] معها أن أشوب لها صدقًا بكذب، وغلظةً بلين؛ لأفوز منها بحظ من نظر، ونصيب من زيارة، وتحفةٍ من حديث. وكل هؤلاء مع شرف موقعهم مني، وانتسابهم إلي، دون الصديق الذي حريمي له مباحٌ وسارحي عنده مراح. أرى الدنيا بعينه إذا رنوت، وأجد فائتي عنده إذا دنوت. إذا عززتُ له ذلَّ لي، وإذا ذللتُ له عزَّ بي، وإذا تلاحظنا تساقينا كأسَ المودة، وإذا تصامتنا تناجينا بلسان الثقة، لا يتوارى عني إلا حافظًا للغيب، ولا يتراءى لي إلا ساترًا للعيب.
قيل له: فهل نمى إليك خبره، من بانَ عنك أثره؟
قال: نعم، لحقني بعض فتيان الحي أمسِ، فسألته عن قرابتي وعشيرتي، فنعت لي كلًا وأصاب أخبارهم. حتى إذا سألته عن الصديق، قال: ما له هجيرى سواك، إن عبّر فباسمك يستقل، وإن تنفس فبذكرك يقطع، وإذا أوى إلى ندوة الحي فبلسانك ينشر، وجودَك يذكر. لا يمر بمعهدٍ لك إلا حيّاه، ولا بمكان حلّه معك إلا تبوأه.
فقلت له: كفَّ قليلًا فقد أججت في صدري نارًا كانت طافئة، وأبديتَ مني صبابة كانت خافيةً. وما أراني متمتعًا بالعيش دون أن أشخُصَ إليه غير مبالٍ بهذه الميرة والغيرة التي خرجتُ من جراها.

قال أبو حامد: فضرب والله كبدَ راحلته إلى حيّه، وترك ما كان فيه مستمرًا مستقرًا.
قلت لأبي حامد: ما أفصحَ هذا اللفظ، وما أرقَّ هذا الحديث؛ لكني أنكرتُ قوله (جواد راكض) قال: أراد (ذو ركض)؛ ومثل هذا يندر من كلامهم.


[1] الوضم: كل شيء يوضع عليه اللحم.
[2] أشبل عليه: عطف به.
[3] أجبأ: أخاف.
[4] أداجي: أداري وأخفي.
[5] أي يكفيني.