وريقاتي

Powered By Blogger

10 يناير 2016

السارد المسرود في تجربة محمد اليحيائي

جريدة الزمن

١٠ يناير ٢٠١٦

إنما السرد هو ذاك الذي يجمح في عالم الخيال، تلك القدرة المهيبة على صنع المعنى عند الإنسان، ذلك البعد المختفي خلف كل الموجودات المدرَكة. واللغة، بما هي أداة تصنع الفكر، على رأس تلك الموجودات. وإذا كان عالم النفس السويدي فرانكل قد أفصح بأن شغف الإنسان الأوحد متثمل في صنع المعنى لوجوده، فإن السارد، بالتالي، يقوم بدور الخازن على الحياة، المؤتمن على أرواح الناس الشغوفين بالأدب على الأقل، بما يخلقه من عوالم تخييلية، لا تمت إلى الواقع بصلة، كما أنها ليست غريبة تماما عليه؛ فهما (الواقع والخيال) في علاقةٍ مشبوهةٍ بين المحايثة والمفارقة، علاقة تجعل السارد نبيا موحى إليه بصوت متعال.
اعتدنا رؤية محاكمة القارئ إما للسارد، وإما -وهذا في أحسن الأحوال- للنص. وهذا الأمر أصبح طبيعيا في العلاقة بين السارد والقارئ، النبي -أو مدّعيها- وجمهور المتلقين. أما أن يتمرد السرد على سارده، أن يثور مؤمن على نبيه، أن نرى محاكمةً، بل خروجا تاما على المتفضّل بنعمة الخلق والإيجاد، خلق الشخوص والأمكنة والأزمنة، فهو مصدر دهشة لا تنطفئ نارها بسرعة. هذا بالضبط ما فعله محمد اليحيائي في نصيه: الأول “سلطان الرماح” المنشور في مجموعة “يوم نفضت خزينة الغبار عن منامتها” (المكتوبة بين 1995-1997)، والآخر “سلطان الرماح يسرد حلما أفسدته مياه حلم سارد آخر” المنشور في مجموعة “طيور بيضاء، طيور سوداء” (المكتوبة بين 2000-2004)، وقد نشرت كلتا المجموعتين، بالإضافة إلى مجموعة “خرزة المشي”، في كتاب واحد حمل اسم “نزهة مارشال”، صدرت عن دار مسعى البحرينية، 2016.
مجمل الحكاية أن سلطان الرماح، المخلوق للسارد محمد اليحيائي، قد ثار، بعد اثنتي عشرة سنة، في القصة الثانية على سارده/خالقه، غيرَ راض عن الطريقة التي تمت التضحية به من خلالها، حسب تعبيره، مقررا أخذ راية السرد ليسرد حقيقة ما جرى في القصة الأولى. هنا، يحق لنا أن نتساءل: لماذا قد يعود السارد إلى نص عمره أكثر من عشر سنوات ليعيد النظر فيه، وهي مخاطرة كبيرة أن يحاول ذلك؟ ما الذي فاته قوله في المرة الأولى ليحمّل –مجددا- بطله قضية تعديله؟ أم أنها مجرد حيلة سردية لجذب القارئ؟ ما المختلف في القصة الجديدة؟
العنوان
إذا وقفنا عند عنوان كلا النصين نستطيع استجلاء إشارات سردية تدل على طريق السارد في عمله. فـ”سلطان الرماح” يعود، بعد اثنتي عشرة سنة، لـ”يسرد حلما أفسدته مياه حلم سارد آخر”. إن الدلالات تتهاوى تبعا للعنوان الأول؛ فدلالات السلطة والرئاسة تصطف خلف كلمة “سلطان”، ودلالات القوة والقهر والسطوة تصطف هي الأخرى خلف “الرمّاح”، هذا على اعتبار قصدية السارد في اختيار عناوينه وأسماء شخوصه، ويؤكد ذلك أن “سلطان الرماح الأول” حينما مات أعلن نهاية رجل “دوّخ الدولة”. إذن هناك حُلمان: أول رآه سلطان، وثان رآه السارد. لكنه سارد “آخر”، في محاولة للتملّص من خطيئة السرد الأول. وهذه سنة سردية عربية قديمة يتبرّأ الكاتب من خلالها من نصه بأنْ يُحيل نص السرد لآخر، عادة ما يكون مجهولا إما بصيغة التمريض (المبني للمجهول: يُحكى، قيل)، وإما بالإضمار (سمعتُ، أخبرني)، وإما بالإحالة إلى راو مجهول (عيسى بن هشام، هلال بن إياس).إننا نقف هنا إزاء احتمالين: الأول أن يكون اليحيائي متبرّأ من سرده ذاك، لكن ليس تماما؛ إذ لا زال سلطان الرماح خليقة اليحيائي الذي يحكي عنه أنه “يسرد حلما أفسدته..”. والاحتمال الآخر أن “السارد الآخر” المقصود هو اليحيائي مُنكَّرًا غير معرَّف، ويوصف بأنه “آخر”. هكذا بكل ما تحمله كلمة “آخر” من دلالات العداء والاختلاف، في مقابل الأنا الشريفة، وبذلك يكون السارد هو سلطان نفسه، لكن مسموحا له بأخذ السرد من يد، ومن قِبل، اليحيائي. في القصة الأولى، أتبع الساردُ العنوانَ بقولة لأنطونيو ماتشادو: “أيها السائر ما من طريق.. تتحدد معالم الطريق بمقدار ما تمشي”. إننا أمام سلطان/ رجل سلطة، سائر في طريق تتحدد معالمه بمقدار ما يمشي. يأتي اليحيائي لا لينفي وجود طريق يرقها سلطان، بل –على الأرجح- أنه ينفي صحة ظنون ذلك السائر في سبيل السلطة (أو الحب كما سيتضح لاحقا).
ولكن ما المياه المذكورة في العنوان التي أفسدت حلم سلطان الأول؟ لا شك أنها مياه السارد الأول الجارفة أو هي المياه التي ضاع فيها السرد وتموّه، وأصبح شيئا غير واضح/ناضج.
السارد واجدا موجودا
إن سطوة السارد العليم في القصة الأولى تخف، حتى تكاد تتلاشى مع الدهشة الناشئة من ثورة “سلطان” على اليحيائي؛ إذ ينتقل الخطاب من لسان الغائب (كان سلطان، بلغ، طريقه..) إلى لسان المتكلم (أُدعى، أبي، مُبتكري..)، فيصبح السارد موجودا بعد أن أصبح واجدا، والواجد موجودا. ورغم الانقلاب على مستوى الخطاب ذاك، إلا أن المسرود الأول (سلطان) حينما تسلم راية السرد فإنه لم يفعل سوى رد فعل حانق على طريقة سرد السارد الأول (اليحيائي)؛ فاليحيائي لم يدفعه للسرد “سبب أو مبرر واضح سوى رغبته، ربما، في ساعة ضجر وبرم بالحياة، في كتابة قصة قصيرة”، فاللاجدوى الدافعة أنتجت سردا مغالطا عليه تصحيحه بسرد مواز. يتضح الانقلاب السارديّ حينما وُصف سلطان حينما استيقظ بـ”منقبض السريرة” في السرد الأول، بينما أكّد على انفراج سريرته في السرد الثاني، بل وبرّر الانفراج ذاك بما لا يدع مجالا للشك فيه. ردة فعل الشخصية البطل هذه تشير إلى وعي السارد بمطلقية قدرة الكاتب على الخلق، ومن ثم تسيير المخلوق كما يهوى حتى وإن كان على حساب طمس إرادة الشخصية وتضييق خناق احتمالات تصرفاتها في مصفوفة أحادية من القدر يوجدها الكاتب. ولذلك بدا صوت السارد الثاني (الذي سرد بعد اثنتي عشرة سنة) أكثر مقبولية كونه يقف خلف الشخصية لا فوقها كما في السارد العليم في القصة الأولى؛ فهو يدفع بالأحداث حدثا حدثا، ويبرر تلك الأحداث مفسرا الحالة النفسية التي أنتجت الحدث، بينما على الطرف الآخر يراقب السارد أفعال مسروده من أعلى دون اعتبار لحالته النفسية التي دفعته لهذا الفعل أو ذاك. ولعل هذه المقبولية متأتية من البون الشاسع بين تاريخ السردين.
تصحيح الإحالة
نقصد بالإحالة ذلك المشار إليه، المعنيّ، المدلول، المقصود من الدوالّ أو الإشارات المذكورة في نظام لغوي معين. ولكل نظام إحالاته الخاصة به الناتجة عن التجربة البشرية، والتعاطي مع الدوالّ أو الإشارات. وقد يختل نظام الإحالة نتيجة لاختلاف المرجع الذي يَؤول إليه كل مؤوِّل على حدة. اجتهد السارد الثاني (سلطان) في أنْ يصحح الإحالات التي قد تُفهم على غير ما أريد من وضعها أول الأمر مع السارد الأول (اليحيائي)؛ فـ”شيراز” التي “فكر بها سلطان أول ما فكر” ليست “مدينة الحب والشعر والنبيذ التي في إيران”، بل هي “حقل نخيل كثيف الظلال”. وحين وصف اليحيائي البيت بالعتاقة، أصر الرماح على جدة البناء، ولم يكتف بذلك، بل سخر من وصف السارد بأن ذلك الوصف “لا ينطبق إلا على بيت ينتمي، ربما، إلى مئة سنة مضت، أو لا ينتمي إلا إلى خيال كاتب تلك القصة، خياله الذي يمكنني وصفه بالمشوش”. ثم مجددا ينفي سلطان حقيقة السرد الأول الواصف لسريره؛ فهو “سريري الذي لا يشبه كاتلي الصاج القديم الذي في القصة آنفة الذكر”. ولعله من واجب السارد الثاني أن يدفع أي ظن بسلطان، الوريث الوحيد لمجد الرمّاحين؛ فهو لم ينو اقتفاء أثر شيراز طمعا في استعادة مجد ضائع، بل كان حلمه متعلقا بمجموعة فتيات يداعبنه. سلطان الرماح إذن زير نساء “ليس من النوع الذي يمكن أن يصبح زوجا في يوم من الأيام”، ولا سلطانا.
إن تدخل سلطان، أو ثورته، لم تكن ناشئة من العبثية التي تمتع بها السارد الأول، بل هو تدخل مشروع لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من “النهاية السريعة والمفاجئة للقصة”، ولأجل “اقتفاء أثر جدي الأول سلطان الرماح”. فإحساس سلطان بخداج القصة، ونقصان نموها على المستوى السردي أدّى إلى خطأ الإحالة في مسرح موت سلطان الرماح الأول، وبالتالي ضياع أثره بين شيراز الإيرانية، و”شيراز” حقل النخيل الكثيف.
***
إن الإشارات السردية آنفة الذكر لا تترك لي سوى تساؤل بريء؛ مفاده: هل كانت القصة الثانية، يا ترى، شيئا غير محاولة لصنفرة سرد أوليّ لكن بحيلة سردية ذكية؟ إن اليحيائي سارد متمكن، استطاع منح القصة التي رآها غير مكتملة أهمية كبيرة بربطها بقصة أحكم سردا وتماسكا.