وريقاتي

Powered By Blogger

17 أبريل 2015

مراهقةٌ فكريةٌ.. بتْرٌ مٓقيتٌ!


يثير ثُلّة من المدهوشين، المأخوذين بشعارات الحرية والمساواة وحقوق المرأة والإنسان - إشكالات تتعلق بأحكام الإسلام المتعلقة بالمرأة.
أعني بالتحديد تلك التفرقة البيّنة بين بعض أحكام النساء الأحرار والإماء.
ينطلق الناقدون لتلك الأحكام من فرَضيّة أولية مفادُها أنّ الإسلام، بما يحمل من شعارات تحرير البشر من عبودية بعضهم بعضًا إلى تحقيق العبودية لله وحده، يُنتَظر منه أنْ يأتي بأحكام غاية في الحرية والمساواة.

لكنّه سيكون من الظلم أن نحكم على الإسلام بظروف اليوم، متناسين وضع تلك الأحكام في سياقها التاريخي التي أتى الإسلام ضمنَهُ.

إذن، ما السياق الذي أتى الإسلام فيه؟
إنه سياقٌ غاية في التقهقر فيما يخص الإماء، تلك الطبقة المملوكة بكاملها لمالكها؛ يحق له فيها كل شيء، بما في ذلك معاشرتها والإتيان منها بولد يعد شرعيًّا في ذلك السياق.
لم يكن بِوِسْع الإسلام أن يفكك ذلك السياق، ويهدمه بأكمله؛ فذلك سيكون مغامرةً خاسرةً بالتأكيد. سياقٌ مُترَعٌ بإماء كثيرة، ومجتمعٌ نشأ على ذلك، لم يكن من الجيد إحداث صدمات على مستوى المعاملات بين البشر، بل لم يكن من المهم فعل ذلك قدرَ أهمية صناعة صدمة معرفية تجاه الوجود والله والإنسان.

اتّبع الإسلام خطةً ذكية في سبيل تحرير البشر، خطةً تقلص من تلك الطبقة المملوكة.
وليس أدل على ذلك من حكم "المكُاتٓبة" القائمة على وعد المملوك بالحرية مقابل مبلغ مالي أو سنين خدمة معينة. قال -تعالى-: "والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرًا وآتوهم من مال الله الذي آتاكم" (النور: ٣٣)

ومن تلك الخطة أيضًا، تعليق كفّارات الذنوب بتحرير الرقاب؛ قال -تعالى-: "وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنًا إلا خطأً ومن قتل مؤمنًا خطأً فتحرير رقبة" (النساء: ٩٢)
وكذلك، قوله -تعالى-: "لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة"

ومن ذلك أيضًا، الآثار النبوية الشريفة التي تحث على عتق الرقاب، ووعد المعتق بالخير في الآخرة؛ من ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم-: "من أعتق رقبة مسلمة أعتق الله بكل عضو منه عضوًا من النار.." (البخاري ومسلم)

هذه الخطة التي وضعها الإسلام، نظريًّا، من شأنها القضاء على تلك العبودية البشرية، وتحقيق العبودية الإلهية التي تقتضي الحرية والمساواة.

ولا يهمني كثيرًا الاحتيالات البشرية التي حدثت في التاريخ من قِبَل البشر أمام هذه الفئة المملوكة، وذلك بعد انقضاء عصر صدر الإسلام وقيام الدول التي تتّشح بالإسلام رداءً لا حقيقةً. إذ لا ينبغي تحميل الإسلام سيّئات البشر؛ ففي النهاية، الإسلام فكرةٌ لا تقوم دون مفكرين بها، لكن لا يلزم من فساد المفرين فساد الفكرة، فالإنسان لا يغلبه أنْ يلوي ذراع أي فكرةٍ لصالحه أذا أراد ذلك!
وإلا، حتى نيتشه استخدم الشيوعيون والنازيون أفكارَه المتعلقة بالأعراق، و دونية العرق اليهودي، في الحرب العالمية. وقد تناسى الشيوعيون والنازيون السياق الذي جاءت فيه هذه الأفكار؛ إنه سياقٌ يحاول نيتشه التدليل على أفضلية العرق اليهودي المتميز بالعقلية الرياضية القانونية البرجماتية. لأن نيتشه شاعر فقد كان يستخدم الرموز كثيرًا بما لا يمكّن كل قرّائه من فهمه (سيما القرّاء الصُوْريين!).

***

أعود للحديث عن ذلك البتْر الميّت للفتاوى والنصوص، واستخدامها ضد الإسلام دون وعي بالسياق الذي جيئت فيه. فأقول:
إن الهدوء مطلب رئيسٌ في البحث المعرفي قبل الشروع في إطلاق أحكام ضد أي أحد، بما في ذلك الإسلام.
وينبغي محاكمة الإسلام بالظروف التي جاء به، لا ظروفنا الحالية المختلفة تمامًا عن تلك الظروف.
إن تناقل مثل هذه الفتاوى، والسخرية منها، لهُوَ إشارة واضحة على ضحالة النقد الموجه، وعدم حقيقيته، وحماسة، وطيش فكريٌّ.

كما أنه ينبغي على المتصدرين للفتوى أن يقدّموا بين يدي فتاواهم ذلك السياقَ التي انبنت أحكام الإسلام فيه؛ كي يتفهم المستفتي (وهو ابن القرن الحادي والعشرين)، ويبرر لنفسه سبب هذا التباين في معاملة الإماء والأحرار.
"يجب" تجديد الخطاب الديني بما يتناسب مع متطلبات العصر. لاحظوا أنني أتحدث عن تجديد "الخطاب" الديني، وهذا لا يعني تمييع الدين وإعادة صياغته كما نهوى؛ فـ"الدين" أمرٌ، و"الخطاب الديني" أمرٌ آخر.

* أدين لبعض الأفكار هنا للباحث خالد الوهيبي في بحثه في مجلة الفلق
http://www.alfalq.com/?p=624
* كما أدين لصورة الفتوى للصديق يوسف الشحي، تلك الصورة التي ولّدت كل هذا الكلام.