وريقاتي

Powered By Blogger

29 مارس 2016

قولة في المجتمع المدني

يطرح برتراند راسل، في كتابه "الفرد والسلطة"، جدلية العلاقة بين هذين الطرفين. أقول "جدلية" لأنها مطبوعة بذلك منذ نشأتها؛ فالفرد والسلطة في حال صدام مستمر فيما بينهما. منشأ هذا الصدام هو الاستلاب المرضيّ عنه لجزء من حرية الأفراد لصالح بناء كيان كبير، من مجموع تلك الحريات يُفترض به حماية الأفراد من قتال بعضهم لبعض. يرى راسل أن التقاتل غريزة أصيلة في الإنسان، أو فلنقل بلغة فرويد "دافع غريزي" على اعتبار مراعاة اختيار الأفراد لأفعالهم في مقابل الجبر الذي توحي به كلمة "غريزة" وحسب. تلك الدوافع التي وفت في بقائها مع الإنسان على الرغم من انتقاله من الغاب إلى الكهوف، في رحلته للحفاظ على نوعه، بسبب تطور مهاراته في استخدام يديه. ومع تمدّن الإنسان، فإنه بات يعدّل من الأشكال التي تنتج من دوافعه الغريزية تلك؛ فابتكر مثلًا التنافس الأولمبي، بمختلف رياضاتها، لينفّس عن دوافعه الخبيئة في التنافس والاقتتال.

إن هذا التعديل لدوافع الاقتتال نشهد له نظيرا على مستوى العلاقة بين الفرد والسلطة. فمن منطلق أن وظائف السلطة الرئيسة هي المحافظة والطمأنينة والعدل، فإنها ستدفع الأفعال التي تهدد المحافظة والطمأنينة. وبالمقابل، فإن من طبيعة الفرد أن ينزع إلى الإبداع والتجديد، وهو ما يتعارض صراحةً، من حيث المبدأ، مع وظيفة السلطة/الدولة؛ فينشأ الصدام بينهما. ولما كان لزامًا أن يتعدل شكل الصدام، ليأخذ شكلا آخر غير دموي -إن جاز التعبير-، شكلا متمثلا في مؤسسات المجتمع المدني.

على هذا، يمكن تعريف هذه المؤسسات بأنها وسائط بين الأفراد والسلطة، ليس ذلك فحسب؛ فهي كذلك -على حد تعبير الشبستري- جماعات ضغط على السلطة لتحقيق نزعة الأفراد المتمدنين في الإبداع والتجديد في مجال الحريات بالمقام الأول. لذلك كان لزامًا على هذه المؤسسات أن تأخذ شرعيتها من المجتمع أولا، لتحمل قضاياه وإبداعاته وتحققها، وتدافع عنها في وجه السلطة إن تطلب الأمر ذلك.

هنا، أستحضر قولة فيصل العامر "كل حراك ثقافي لا ينتمي للشارع هو مشروع عاجز". والحق أنه يمكنني أن أحوّرها لتكون: كل حراك لا ينطلق من الشارع فلا مُعوَّل عليه. لكن السؤال هنا، هل الشارع على وعي كافٍ ليأخذ المبادرة تجاه قضايا الحرية؟

شخصيا أرى أنه تم تسطيح وعي الأفراد من خلال ما يتعرضون له في الإعلام، ويستقبلونه في المناهج التعليمية. فلا نكاد نستمع إلى إذاعة محلية حتى تتقزز من سطحية الحوارات التي تمتد لساعة على الأقل، بينما البرامج الجادة لا تطول لأكثر من ربع ساعة. أما المناهج التعليمية فلا تقترب ناحية المسكوت عنه مكرسةً بذلك مستوًى مرضيًا عنه من الوعي الزائف، حتى إننا لا نستطيع إطلاق هذا المصطلح على هذه المعرفة؛ حيث إن الوعي هو إعمال للفكر في القضية المُدرَكة، بينما الحاصل أنه تلقين مُغلَّف بما يشبه التبرير. كل ذلك بعيدًا عمّا يستفز الوعي حقيقةً ليتّسع، وبذلك تكون السلطة وفيةً لوظيفتها في المحافظة والطمأنينة. فيبقى السؤال المطروح؛ أين دور مؤسسات المجتمع المدني في خلق وعي الأفراد؟

شخصيًا أرى أن الدور الأول الذي ينبغي على تلك المؤسسات أن تقوم به هو ترميم الوعي المُسَطَّح لدى الأفراد عن طريق استفزاز وعيهم بالثقافة الحقوقية والسياسية، من ثم نستطيع أن نتحدث عن دور حقيقي لمجتمعٍ مدني.