وريقاتي

Powered By Blogger

21 أغسطس 2015

كائنات العٓلْق.. (١)


نحن كائنات تعلق بكل ما يمكنها أن تعلق به، وإذا تمكنت فإنها تلعق كذلك. طفيليات تورّط الكون بها؛ فما إنْ تلامس سطح شيء ما حتى تشقّه وتمدّ أنابيب التثبيت فيها، وتُخرج ألسنة اللعق، تفرز سوائلها لتطوّع تلك المادة للهضم. الغريب أننا كائنات لا نمجّ شيئًا، لا نستثني شيئًا من سطوتنا تلك؛ بل إنّنا نتحدث عن قومٍ إذا ورد أولهم بحيرة ماء، يقول آخرهم: "يومًا، كان هنا ماء"، إننا نفرز عصارتنا قصصًا خرافية أيضا.
لاحقًا، عرفنا طبيعتنا تلك، فآلمنا وخز الوعي هذا. الوعي أشبه بالأخ الكبير؛ يرقبك بكل هدوء وصبر منتظرا خطأ صغيرا منك ليُعمِل سيخ سخريته في خاصرتك، ويُسقط حملك الذي تحمل. ولأننا أذكياء كفاية، صنعنا أفيونا لغويا، أفيونا يعمل بامتياز. الأفيون رهانُ التقدم. بتنا نسمّي تطفلنا ذلك بـ"العلاقة"، نَسِمها وكأننا مُجبرون على ذلك لا مُخيرون. نحن نكرّس الجبر قبل تبجّحنا بالحرية. مع الأسف، حتى أفيوننا هذا لم يُنسِنا عَلْقنا ولَعْقنا لهذا الكون.

في الآونة الأخيرة، ازدادت علاقتي حميميةً بالشوراع (ليس لهذا علاقة بسوء الأدب)، بتّ استمتع بقضاء الوقت على "الزفت"، لاسيما وحيدا. تمكّنتُ من التخلص من عقدة اسمها "ميحد حمد"، كانت تلازمني حتى تعطّلت ثلاث سمّاعات من أصل أربع في السيارة. أصبحتُ أستمع للإذاعة أكثر، مونت كارلو الدولية، الإذاعة العامة، إذاعة الشباب، أبوظبي، هلا إف إم. لكنني سرعان ما أغيّر المحطة إذا بدأت الإعلانات التي تمثّل أعلى درجات العَلْق واللعْق دناءةً: "دجاج الصفاء يشعرني بالطمأنينة"، " بييب بييب.. جالس أجرّب سيارتي"، والامتصاص الناعم لدم المواطن المتوافق مع الشريعة الإسلامية.
لعل من "أبرز" [هذه الكلمة لن تعجب الصديقي سليمان لأنها تذكّره برائحة إفرازه نتيجة لَعْقه للحوم الإبل، لاسيما الظفارية منها] - من أبرز الشوارع التي أتلذذ فيها بتقليب المحطات الإذاعية، هو شارع تيبات-خصب. يتيح لك هذا الشارع تشويشا كافيًا لكي تتحوّل من الاستمتاع بالحديث المُجتَرّ يوميا، إلى مجاهدة النفس من أجل التقاط كلمة عربية بين كلمات فارسية وهندية وإنجليزية. تبقى متلهفًا للمفاجأة الآتية. قانون عربي، شدْوٌ فارسيٌّ، ورقص هندي. أما كيف تعرف الرقص الهندي فهذا سهل، للموسيقى الهندية نغمة بروليتارية لا تحتاج معها لأي لغة كي تميزها.
وفي أكثر اللحظات حرجًا، عندما يطغى التشويش، أتذكر رولان بارت الذي يستطيع الوصول للنشوة مع مجموعة من الماكنات التي تعمل بضجيجها معا. ويستلذّ خرْق أذنيه بمجموعة صبية صينيين يحفظون بطريقة تقليدية غير متّسقين. وأقول: الْتمس الهسهسة التي تسكن هذه الضوضاء. لكن أين هذه الهسهسة؟ وأرد: عدم العلم لا يعني علما بالعدم.
لو كان في بارت هذا خيرٌ لَما مات مرغوما أنفه بحادث سيارة.