وريقاتي

Powered By Blogger

13 يناير 2016

القراءة.. فعل تأويل الموجودات

يشكل كل فعل قراءة فتحا جديدا، يوسّع الوعي تجاه الموجودات اعترافا بها، وإدراكا، وتفسيرا. هذا "الفتح" بمثابة هدوء النفس إزاء قلقها من المجهول الذي يكتنف الموجود المُعتَرف به. هو فتح لأراضٍ توسّع الوعي فيها، فاشتملها. يظهر على السطح هنا تساؤل: ما "القراءة" المقصودة؟ وكيف يمكن لها أن توسّع الوعي؟

أخذًا بلحاظ السياقات التي تُستخدم فيها لفظة "القراءة": قراءة الواقع، الموقف السياسي، المستقبل - ينكشف لنا أن المعنى المراد لم يعد ذاك الواقف على حدود فك الرموز المرسومة الدالة على مدلولات مُصطلح عليها. إن الأمر يتعدى ذلك إلى النظر في التعالقات بين الدوال تلك، والنظر فيها على أنها عناصر في نسق نظاميّ معرفي، يعكس هذا النسقُ بنية عقلية تقف خلف المقولات، يمكن تسميتها "اللامقول" على غرار "اللاوعي". وبالقياس نفسه، يكون اللامقول أكثر من المقول المتلفَّظ به. في هذه المنطقة ينشط فعل القراءة، مُحدِثًا سلسلة من الإحالات والتأويلات. 

إن كل قراءة هي فعل تأويل. فكما أن النص غير بريء من الدلالات التي يحملها، كذلك القارئ غير بريء من الدلالات التي يصنعها. أليس القارئ يأتي إلى النص مُحَمَّلًا بحَمولات معرفية تكون بمثابة مرجعية تأويلية للمقروء، بوعي أو بلا. ليست هناك قراءة تنطبق مع مُراد الكاتب تماما. عليه، تظهر على السطح إشكالية وجود الموضوعية في القراءة. هل هناك موضوعية حقيقية في هذا الفعل؟ إذا عنينا بالموضوعية أنها توافق فهم القارئ ومراد الكاتب، فإنه برأيي، ليست هناك قراءة موضوعية. فالموضوعية تتطلب فصلًا بين ذاتية القارئ إزاء ما يقرأ، وهذا يعني إقصاءً للذات الواعية التي تَشكّل وعيها تحت ظروف معينة، وبعد قراءات متباينة. تغدو الذات غير الذات بعد سلسلة البحث والتساؤل، التي يسميها فوكو "الروحانية"، إذ تتطهر  بعملية القراءة ويعاد تشكيل الذات. إن ذات كل واحد منا توصف بحصيلة بحثها وتحصيلها؛ فأحدنا قد يجمع النبي محمد وأفلاطون ونيتشه والجابري والكندي وابن سينا - بمقدار ما قرأ. فنحن لسنا أنفسنا تمامًا. إن القراءة تحمل خطيئة التأويل بالضرورة، لكن خطيئة ادّعاء انفصال الذات أثناء فعل القراءة أعظم افتراءً.

نعني بالتأويل هنا نظام الإحالات الذي يبنيه القارئ في محاولة لفهم المكتوب. ولكن، كيف نضمن أن نظام الإحالة هذا سليم، أو أنه فعلًا يُحيل إلى ما أراده الكاتب؟ افتراضًا أن فعل القراءة السليم هو الذي ينسجم ومقصد الكاتب، فيكون فعل القراءة (التأويل) السليم هو الذي يتناغم مع فكر الكاتب، وهذا يتطلب تتبعًا لاهتمامات الكاتب من قضايا وقراءات ونشاطات. ليصبح فعل القراءة مهمة صعبة، والأحكام أقل تقريرية، وبالتالي أقل حدّة، أكثر قبوليةً للآخر. وهذا عين الوعي الذي نشدناه في البداية.