وريقاتي

Powered By Blogger

15 أكتوبر 2016

رسائلُ اعتراضية إلى "جاهليّ" قبل الجاهلية

"لعمرك ما ضاقت بلادٌ بأهلها، ولكن أخلاق الرجال تضيق"


  • عذرًا يا عمرو بن الأهتم، كيف لك أن تقول ذلك؛ فإن بلادنا (الإضافة هنا مجازية فحسب) تضيق بأخلاق الرجال، أولئك الذين يحرّكون فيه ماءه الآسن، ويحبونه حقًّا، تضيق بهم فترسلهم إلى الزنازين.


  • بلادنا (وهنا أيضا الإضافة مجازية) تضيق بأولئك الذين يعون أن الحب الحق للوطن أنْ تعمل لأجله: فكرًا، وثقافةً، وإنسانًا، قبل أن تخلط الإسمنت بالحديد.


  • هذه البلاد، يا عمرو، تعلم أنها خداج، وتعترف بذلك، لكنها لا تريد الانعتاق من هذا الطور. والأدهى من ذلك، أنها لا تسمح لأحد بأن يفطمها من ثدي أمها.


  • تلك بلادٌ لا تعيش ظَرفها في التاريخ. إنها تذهب بهذا الظرف إلى الزنازين، فمن أراد أن يعيش الظرف التاريخي فعليه أن يأخذه من هناك. يضمنون لك الدخول إليه، لكن ليس الخروج.


  • بلادٌ ترى مواطنيها "أبناء" "أعِزّا"، لكنها تراهم أيضا قاصرين عن كل شيء.


  • هناك بلادٌ تُحيل السُّرّاق إلى التقاعد، والحُرّاس إلى الزنازين.


  • هنالك سجنٌ يتقمّص بلادًا، وسجّانًا بعمامة.


أعرف بلادا بهذه الصفات التي ما كانت لتوجد في الجاهلية. أرجو أن تصدقني. لكننا حقًا جئنا بعدكم بأربعة عشر قرنا.

14 أكتوبر 2016

النسبوية: التبرير العاجز



دائما هناك من يبرع في تبرير المواقف، حتى تلك التي يعترف هو بعدم جدواها، إلا أنّ مِن معارفه مَن يقف وراءها -وإن كان لا يملك قرارا في الأمر-، ولربما انطلاقا من واجب "المعرفة" ومقتضياتها نراه يوظّف المنطق والخطاب لتبرير وجود ذلك الموقف. بينما هذه الأدوات تقف عند حد "النسبوية"؛ ولا تستطيع الصمود طويلا في الميدان أمام الحقائق.

مدخل لا بد منه/
إن "الحقائق" المشار إليها في المقدمة، والتي لا يصمد أمامها الخطاب البلاغي والمنطقُ موجَّهُ النتائجِ، إنما المقصود بها الإقرار النفسي والداخلي لكل فرد على حدة تجاه القضايا والمواقف، وليست هي الإملاءات الذوقية على الآخرين؛ إذ إن الاعتراض بـ"من يحدد الحقائق؟" يصلح في سياق فرض الآراء والسلوكات على الآخرين، أما الإقرار الداخلي لكل فرد فأمر آخر، ولا تدخل النسبية بين المرء وذاته؛ فاللسان ترجمان القلوب كما يقال، ولا يصح الإقرار بأن ما يقال عكس ما يُعتقد في الحالة الطبيعية (في غياب الإكراه أو الخوف على النفس وغيرها مثلا)؛ وإلا فما استطعنا فهم الرسائل اللغوية بسبب يقيننا بوجود مفارقة بين المنطوق والمقصود، وهذا يضرب أصل اللغات في مقتلها (أقصد وظيفتها في الفهم والإفهام).
***
"النسبوية" هي ظاهرةٌ تبريرية سلبية، يتعلق بتلابيبها كل عاجز عن رد الفعل، فلا يجد حيلة نفسية سوى الانخراط في الفعل مدافعا في وجه ردود الأفعال، ولكي يثبت أن له رأيا وموقفا يسجل. وبسبب العلة التبريرية، انضافت واو الأيدولوجية في صياغة المصطلح؛ فهي "نسبوية" وليست "نسبية"، والفرق بينهما كالفرق بين العلمية والعلموية؛ أن النسبية مما لا يجادل فيها اثنان من ثبوت اختلافات في خصائص الأفراد وبالتالي أفعالهم وردودها، بينما النسبوية فهي توجه يعلّق أفراده كل ما يعجزون عن إقامة رد فعل عليه بشمّاعة النسبية وبالتالي يتمكنون من تبرير وجود حتى أكثر المواقف غباء. وغالبا ما تنطلق دعاوى النسبويين في وجه من يسجلون ردود أفعال حول قضية بعينها - لإنهاء حالة ردود الفعل التي تسبب حالة من الحرج إما لأشخاصهم وإما لمعارفهم وإما لمن لا يملكون تسجيل حالة ضدهم كالسُلطة مثلا؛ لتصبح النتيجةُ المحصلة هي غيابَ حالة النقد الحقيقي للأفكار وتداولها لصالح العلاقات الاجتماعية والسياسية.

يعتمد النسبويون على قاعدة النسبية، لكن ليس لإقرار الاختلاف توصيفا، بل لإقرار السذاجة والمنافحة عنها. فيقولون لك "يا أخي، الناس تختلف في اهتماماتها، دعهم وما يشاؤون". هذا حقٌّ، لكنه يراد به باطل؛ إذ إن الدعوة إلى التزام الصمت يعني غياب النقد وهو عين الباطل. لكن المراد من النقد هو تعريض القضية لأعلى درجات التمحيص حتى يستبين المعدن النفيس من الرخيص، ثم يبقى للإنسان خيارُه، ولا يُصادر منه بأي حجة كانت.

ومن أهم أدوات النقدِ الحجاجُ في إثبات صحة رد الفعل، وبطلان شكل الفعل. ولا يكاد يخلو نقاشٌ من الحجاج، ومجرد الحجاج لا يسلب أحدا حقه في الاختيار؛ حتى القرآن عندما أراد إثبات الوحدانية لله في مقابل التعددية الألوهية، فإنه حاجَجَ بقوةِ "بل هم منها عَمون"، لكنه ما أغفل "لكم دينكم ولي دينِ" في الاختيار.

إن أحكامنا التي نطلقها على المواقف تتنازعها العواطفُ من جهة، والمنطقُ من جهة أخرى، وتبرز الشخصية الفردية بمقدار الابتعاد عن الأحكام الذوقية الساذجة إلى المنطقية الموضوعية.
لكن كيف نعرف ذلك؟
في نظري، لكي نستطيع الحكم بموضوعية ينبغي النظر في مُسببات هذه المواقف، ومآلاتها، والنتائج المرجوّة منها؛ ومتى ما اتّسقت الإجابات عن هذه الأسئلة كان الحكم الموضوعي في صالح الموقف، ومتى تخبّطتْ فإنه يدل على عكس ذلك.
***
النسبوية شماعةٌ واهية، يتعلق بأسمالها كل عاجز عن النقد، مُعجِزٍ للآخرين، مُثقَلةٌ بالسذاجة والغباء، ولا تقدم شيئا حقيقيا موضوعيا.

28 يونيو 2016

مفارقات الغرب في مسامير: قربان



تبدأ الحلقة بمشهد ذلك "الخواجة"، الذي سيتضح أنه أمريكي لاحقا، وهو يتسكّع في إحدى المدن العربية التي أصابها القصف الشديد. صوّر هذا "الخواجة" تصوير الطفل المدلل، غير المكترث بكل ما يحصل حوله لدرجة أنه يترنّم مبتهجا وتعلوه الابتسامة، بيدين ناعمتين، وعينين خضراوين تتطلعان إلى الأعلى دائما.
ثم تحدث العقدة التي توجّه بقية أحداث الحلقة، وهي عقدة تتّسم بالمفارقة بين صغر الحدث وسخافته وعظم رد الفعل على المستويات الشعبية والرسمية. على الرغم من عدم تعرض هذا "الخواجة" إلى أي مضايقة بشرية من أي نوع، نجده يُشاك بشوكةٍ صغيرة، يتعامل معها كالطفل إذ يبدأ بالبكاء والعويل. وفي اللحظة الموالية ينتقل المشهد إلى ما أظنه وزير الدفاع الأمريكي الذي ينام وسلاحه النووي مُضاجِعه. يأتيه الخبر في منتصف الليل، ورغم ذلك يؤكد أنه "سيكون هناك خلال دقائق". ليقدم وزير الدفاع مؤتمرا صحفيا، فيما يبدو إنه يعجّ بالصحفيين الذين ملأوا القاعة بدليل أضواء الفلاش التي لم تتوقف.
أكّد الوزير على اطمئنان الرئيس الأمريكي نفسه على قدم المواطن الأمريكي التي أصابته شوكة في الوطن العربي. كنايةً عن الاهتمام بالمواطن أينما كان، ومهما صغر الحدث الذي يتعرض له.
يتحدث الرئيس الأمريكي مع قدم المواطن مُحمِّلًا العربَ وِزرَ الحادثة بأنّ العرب يضعون الشوك في كل مكان على الرغم من "أننا نأتيهم بالورود"، واعدًا إياه بالانتقام من تلك الشوكة. وقد أوعز الأمر إلى "الأصدقاء" في إسرائيل للقيام "بالمهمة المقدسة". وهنا سخرية/مفارقة أخرى من قضيتين: الأولى في كون الأمريكان أتوا بالورود للعرب، والأخرى في وصف العملية الانتقامية بالمقدسة مع الإيعاز بها لإسرائيل، إسرائيل التي تدّعي -في شرطها الوجودي- القداسة.
تتحول هذه الحادثة إلى قضية رأي عام في أمريكا؛ إذ يتجمهر المواطنون اليمينيون المتطرفون فيما يبدو للتنديد بالعرب والمسلمين، ويتم عمل نموذج ذهبي لتلك القدم بالشوكة، فيما يتابع ذلك وزير الدفاع في بيته مع سلاحه النووي وأطفاله الصغار منه. ليظهر فيما يبدو أنه دونالد ترامب منددا بعنجهيته المعهودة ويتوعد. 

ينتقل المشهد إلى مبنى جامعة الدول العربية. تم تصوير المشهد بالبرود الذي يبعث على النوم، وقد نام أحد "المنسقين" فعلا. كما أن البيئة بدائيةٌ لدرجة انتشار الذباب داخل المبنى. شخصيات المنسقين العرب غير سوية؛ حيث سرق أحدهم ناقل الصوت الذي أمامه ووضعه في جيبه، في إشارة ساخرة على أن السرقات التي ينفذها المسؤولون العرب هي مكشوفةٌ في الحقيقة للجميع كما أنها موثقة بالكاميرات.
الأنف الكبير في الصورة لإحدى المنسقين تشير إلى الكذب، كما تنقل إلينا ذلك عدد من القصص العالمية. لقد كبر أنف هذا المنسق العربي لدرجة أنه سقط قي كوب القهوة أمامه.
 أتى القرار الذي اتفق عليه المنسقون العرب في قضية الشوكة متمثلا في "إنشاء مغلسة للموتى العرب". وهنا مفارقتان: الأولى في الاعتباطية بين القضية والقرار؛ إذ لا علاقة بين هذا وذاك. والأخرى في الاهتمام بالمواطن العربي بعد موته بينما المواطن الأمريكي يتم الاهتمام به في حياته. 
ينتقل المشهد إلى مغسلة الموتى التي أنشأتها الجامعة العربية. مغسلة مهترئة، يعمل فيها اثنان فقط، وينتشر فيها الدم بعشوائية، المكان غير نظيف بالمرة. يتم الانتهاء من أحد الموتى ليأتي اثنان ممسكين بأعناق بعضهما البعض، يتساءل الزميلان عن قصتهما ليفترض أحدهما أنها قضيا في "خلاف مذهبي". إنه تصوير بالغٌ في السخرية مبلغًا عظيمًا. وفيما يتابع الزميلان الأخبار، يستبشران بعدد كبير من القتلى يتزايد في كل ثانية، لدرجة أن المذيع يتردد مع كل تحديث لعدد الموتى. بينما رد الفعل الدولي متكفٍ بإعراب بان كي-مون عن قلقه إزاء ما يحدث في المنطقة. 
يتساءل الزميلان، بعد زمن طويل، وبعد أن امتلأت الصحراء العربية من الموتى العرب، يتساءلان عن عدم وصول شاحنة الجثث لهذا اليوم، ويذهبان للتلفاز ليجدوا القنوات العربية ليس فيها أحد. ويستغل أحد الزميلين الموقف ليمرر سخرية صغيرة عن الإعلام الغربي المتّصف بالمصداقية أكثر من الإعلام العربي.
"لقد باد العرب كلهم" إلا هذين الزميلين في مقبرة العرب الكبرى. بقي قبرٌ واحد، وهما اثنان، يقترح أحدهما أنه سيقتل الآخر ويعده بأنه سيقتل نفسه بعده مباشرة، لكنه لا يثق به. لتأتي تلك الشجيرة التي شاكت قدم الأمريكي وتحل الموضوع؛ إذ رمتها الريح في ذلك القبر وانهالت النيران الأمريكية على الجميع وانتهت الحلقة بقنبلة نووية أمريكية قضت على الوجود العربي بذريعة سخيفة.

23 أبريل 2016

إنه يفتح الباب كاملا!

كانت لا تزال ترين عليه سكنة الصلاة، وتلك النظرة الخاملة التي تخالها ترى من خلل الحجب، عندما مر الرجل وألقى السلام نافثا معه زفيرا أعمق من منارة مقلوبة.

ابن مَن هذا الصبي؟ لست متأكدا، أراه بين فينة وأخرى هنا. انظر إليه كيف يمشي وكأنه لا يرى أحدا، يعبّ الهواء ملء رئتيه ورِئات أبيه وأمه. على الرغم من استقامة ظهره، لكن بصره خاشع. أي خشوع وأي بطيخ! هذا يريد أن يقول انظروا إليّ، أنا متنازل عن كبريائي الذي هو حق أصيل لي. سيبك منه، سأسأل الإمام عن أبيه، لعله يعرفه، إلا قل لي ما أخبار ابنك سهيل؟ انظر انظر، هذا ما كان ينقصه أيضا! ماذا هناك؟ لقد فتح الباب. طيب، يريد الخروج. لا، لا، أنت لم تره كيف يفتح الباب. وهل فتحه برجله لا سمح الله؟ لحسن الحظ أنه قصير ورجله لا تصل فيما أحسب إلى ذلك المقبض. فما الذي يضايقك إذن؟ الباكستاني الذي هو باكستاني، يتريّق بصل وخبز، ويكدّ منذ الصباح حتى الصباح القابل، خرج بطبيعية ولم يفعل ما فعله هذا الصبي الفتقة. ظلت عيناه ترقبان الرجل حتى توارى عنهما جانبا. سألتني عن سهيل، سهيل بخير حال، ربّيته على مصافحة العرب جيدا، وأدرّبه على هزّ أيدي الرجال ثلاث مرات يوميا، ويبدو أنني سأعلمه على الحذر من الطغيان. طغيان! أي طغيان أبا سهيل؟ أنت تعرف يا خميس أن الطغيان هو مجاوزة الحدّ في أي شيء: المأكل، الملبس، المجاوزة إلى أراض أخرى. آه صحيح، لكن سهيل صغير على مثل هذه المفاهيم. بل هو كبير، لكني طبعا سأراعي سنه الصغيرة؛ سأقول له مثلا: يا سهيل، إن كنت بحاجة إلى نصف كوب ماء فإن شربك الكوب كاملا يعد من الطغيان الذي نهى عنه الشرع الحكيم، وبالمِثل إذا كنت بحاجة إلى أن تفتح نصف الباب لكي تخرج فإن من الطغيان أن تفتح الباب كاملا. فتح الباب كاملا لكي يخرج! تصور! يبدو أن هذا الفتقة أحد أمرين: إما أنه معتوه، وإما أنه مخبول.. أما أنْ يكون سليما معافى ويفتح الباب كاملا، فهذا مما لا يمكن أن يكون. لا حول ولا قوة إلا بالله.

يسلم الرجل على شيخ القبيلة الذي التقاه في فناء المسجد. يستغربان من معرفة الشيخ بهذا الفتى كما اتضح من سلامه به. يذهب الرجل. يلهثان خلف الشيخ. من هذا الفتى يا شيخ؟ هذا خالد ابن حياة أحمد عبدالله. أحمد السفير؟ هو هو. ونعم بالوالد والولد. ينصرف الشيخ. يبدو أن حياة الرجل في الخارج من دولة لأخرى قد أورثته الاتزان في نفسه. نعم، إنه هادئ ولم يفعل خطأ. عموما، فتح الأبواب كاملة يجنّبنا الاصطدام بقادمٍ لم ننتبه له. إن هذا الفعل ليدل مما لا شك فيه على ذهنية متّقدة تستشرف المستقبل جيدا قبل الولوج فيه. كيف لنا أن لم ننتبه لذلك! لا عليك، الدنيا تعلّم من لا يتعلم، أنا سأذهب إلى مكتب مقاولاتي. وأنا أيضا سأذهب إلى دكاني.

16 أبريل 2016

تذوّق يتذوّق تذوّقا!

لقد هوى (أبدأ قولي بلقد التي تأتي في جملة جواب قسم محذوف) مستوى ما يقدم عبر وسائل إعلامنا العربية المختلفة (بوصفها أداة)، وأصبح في قاع مظلم. لقد غدا فأسا يصنع عقولا متشابهة، وذهنيات مسطحة. إن إعلامنا عبارة عن عملية يبدو أنها مخطط لها لتغييب الأفراد، وصرف انتباههم ناحية مواضيع لا تصنع وعيا أبدا. ويكفيك لتتأكد من صحة هذا الادعاء أن تفتح إذاعة محلية وأنت تقود سيارتك من بيتك إلى مقر عملك لتنبعث رائحة الهراء (وأظن أن هناك علاقة وثيقة بين "الهراء" و"الهرّان") مما يقدم. لعل أبسط مثال هو انتقالنا من الاستماع إلى "فكروني" أم كلثوم إلى هراء "أنت معلم واحنا منك نتعلم". أتحدث هنا عن البرامج الحوارية الطويلة، لا تلك الوجبات السريعة. كان ذاك تقديما لما سيلي قوله.
***
تتردد كثيرا في الأوساط المحافظة، والخطابات الأخلاقية، مقولةٌ استطاعت أن تعبر إلى المواد القانونية والدستورية، على الرغم من مطاطيتها، والضبابية التي تحملها، والنسبية التي تصل حد التشتت في تفسيرها. إنها مقولة تمثل فعلا ما ادعاه الجابري في مشروعه النقدي للعقل العربي من أنه عقل أخلاقي بامتياز – إنها مقولة "الذوق العام". لازمت هذه المقولة سياقات متعددة: ابتداء باللغة (الكلام)، وليس انتهاء بلون واجهة البيت. لكن السؤال الكبير التي يمتحن هذه المقولة، ويجعل مردديها من المحافظين في حيرة: ما الذوق العام؟ ومن الذي يحدده ويرسم حدوده؟
في نظري، هذا السؤال المفخخ مشروع جدا. أقول إنه "مفخخ" لأنه يُضمر تقويضا لنسق أخلاقي اجتماعي، ويراد منه تمرير فكرة غير مقبولة. وأقول إنه "مشروع جدا" لأنه يستفز الوعي الجمعي ليُعيد النظر في بنائه المعرفي، ويستعيد ذاته المستلبة (إما في الماضي، وإما شرقا وغربا) بعيدا عن الهوية.
يظن المحافِظ أنه يجيب فعلا عندما يقول "إن المجتمع هو الذي يحدد ذوقه العام". لكن، في الحقيقة، هذه ليست إجابة؛ لأن المجتمع المقصود هنا هو ذلك الكيان الاعتباري المتكون من عدد من الأفراد، ولا يمكن لكيان اعتباري، غير موجود في الخارج ككائن مستقل، لا يمكنه أن يفعل شيئا، فضلا عن صناعته لنسق ذوقيّ. إذن، فما هذه الإجابة سوى مغالطة منطقية تشتت الانتباه عن الفكرة في ذاتها، وتنقل التركيز ناحية التفكير في كيفية صنع المجتمع للذوق، بينما لا وجود موضوعيا لذلك الجسم أصلا؛ وبالنتيجة يضيع الاعتراض المشروع.
إن الإجابة الأدق في أن نحيل مسؤولية تلك الصناعة إلى أشخاص بعينهم، يتحملونها. وإنني أظن أن /ر هذا الذوق منوط بمجموعة من النخب الثقافية والسياسية (يمثلون الرموز) التي يشترط فيها المقبولية عند عدد كبير من الأفراد (يمثلون الجمهور). ومن هنا ينبغي الانطلاق في بحث تلك العلاقة بين الفرد ورمزه في أي مجتمع؛ من أجل وضع أرضية موصوفة ننطلق من فوقها لنستطيع التغيير فيها.
لعلنا نُجابه بالسؤال/العلكة: من هم النخب الثقافية؟ وما تعريف الثقافة؟ ومن هو المثقف؟ في الحقيقة، هذه أسئلة مغالطة كذلك؛ فالثقافة –في أبسط تعريفاتها- أسلوب في العيش، وهي الفنون والآداب اختصارا. وبالتالي فإن المثقفين هم أولئك الفاعلون في هذه المجالات. من حقنا أن نتساءل: هل يعني هذا أن يضع المثقف المسؤولية المجتمعية على رأس قلمه كلما أراد الكتابة عن قضية بعينها؟ نقول إن هذا المجتمع هو كل تلك المعارف والآداب التي صنعته وجعلته على ما هو عليه؛ فالمجتمع أثرٌ، فلا ينبغي قلب المفاهيم لنجعل الفاعل في صنع المجتمع أثرًا؛ فالمثقف حر في صياغته للمجتمع وتحولاته.
صحيح أن هذا الكلام يفترض خلو ذهن الجمهور، واستعداده للتلقي، وهذا أمر بعيد إلا على الورق، إلا أن له حظا من الصحة؛ إذ أن العلاقة بين الرمز والجمهور تكون دائما فاعلة ومؤثرة (من المرسل إلى المتلقي)؛ حيث إن الجمهور (لا سيما النفسي منه) منشدهٌ للرمز حالة كونه جمهورا. لكن ماذا عن وعي الأفراد بعيدا عن كونهم جمهورا؟
حسنا، هنا ينبغي التفريق بين مستويين من الخطاب (بالنظر إلى المتلقي): مستوى جماهيري، ومستوى فردي. فالأول، في طبيعته، مشحون بالعاطفة، ومستوى العقلانية فيه منخفض، في حين أن الخطاب الفردي ينبغي أن يكون على العكس؛ لأن مستوى الوعي عند الفرد، حالة فرديته، يكون عاليا مقارنة بحالة الجمهور. وهذا يستتبع وجود كلا المستويين في الخطاب الثقافي والسياسي.
ثم إن هناك اعتراضا آخر، متمثل في ذلك التفريق الفج للبشر إلى "نخبة" و"عامة"، مفترضين في النخب مدى أوسع للوعي وعمليات الإدراك، مقابل ضيق ذلك عند العامة. إن هذا الاعتراض مفرطٌ في رومانسيته، ولا يعمل سوى لتكريس فكرة المحافظة، وتعطيل عمل المثقف. إذ إن الرموز تملأ مساحة واسعة من وعي الأفراد المستعدين للتضحية بدمائهم وذويهم إذا ما أشار الرمز إلى ذلك؛ مثل: "نموت نموت ويحيا الوطن".
***
يحق لنا أن نتساءل، ونحن نعيش التدفق المعلوماتي للمعارف والخبرات: هل تسمح الوسائل الحديثة للنخب بأن تعتلي منصة "النخبة"؟
كتب الناقد السعودي عبدالله الغذامي كتابا مهما بعنوان "الثقافة التلفزيونية"، وأردفه بعنوان صغير "سقوط النخبة وبروز الشعبي". حقا، إن عرش النخبة يهتز من تحت الجالسين عليه، لكن هذا لا يعني انتفاء وجود الرمز عند الفرد الذي يعيش العولمة؛ إذ يبقى الرمز موجدا حتى وإن اختلف ممثله بالنسبة له. إن الذي فعلته هذه الوسائل أنها صدمت الجمهور ببشرية تلك الرموز، الأمر الذي ولّد رد فعل حانق لرفض مقولة "الثقافة" و"المثقف". لذلك أجدني مضطرا إلى التفريق بين المثقف في حالته الثقافية، والمثقف في حالاته الأخرى؛ وذلك حفاظا على أن يكون الرمز مثقفا وليس ميكافيليا أو شوفينيا أو حالما بثيوقراطيا. لكن، طالما صعب على الفرد أن يفرق بين الحالتين، فإنه ينبغي على الثقف "أن ينتبه للأشياء التي تجعله هو" (على حد تعبير باموق).
***

في المحصلة نقول إن مقولة "الذوق العام" تعبيرٌ عن المعايير الأخلاقية المقبولة في المجتمع، تصنعها النخب الثقافية والسياسية الفاعلة التي –لا شك- أنها تعاني تهديدا وإقصاءً بفعل التدفق المعلوماتي الرهيب؛ فعلى هذه النخب أن تتحرك في سبيل إعادة الاعتبار للفن الرسمي (الذي تتبناه الدولة) كونه صانعا للوعي، بعيدا عن ترديد عبارات المحافظين في الاحتراز من خدش الذوق العام المتردي أصلا.