وريقاتي

Powered By Blogger

2 مايو 2014

يا ناطح الجبل!

تقول الأسطورة التوراتية إن الرب نظر إلى الناس فوجدهم يتكلمون بلغة واحدة ويبنون حضارة تكاد تصل إلى السماء، فنزل الرب  وبلبل ألسنة الناس فتغيرت لغاتهم مذ يومها وصاروا شعوبًا وقبائل مختلفة فلم يتمكنوا من إكمال مشروعهم الحضاري.

 لست بصدد إثبات إنسانية النص التوراتي؛ فهذا أمر تكفّل به الفيلولوجيون الغرب أنفسهم. لكن الأمر الذي يمكن استشفافه من وراء هذه القصة/الأسطورة أن كاتب العهد القديم كان على وعي بأسباب قيام الحضارات وتقدمها – وحدة الوعاء الثقافي (اللغة). وإن للرمزية الثقافية لللغة دلالاتٍ مرتبطةً بها؛ إذ إنه عندما يتغير الوعاء يتغير المحتوى بالضرورة، فيحصل لدينا التعددية الثقافية.

إن التعددية الثقافية قدر الإنسان على هذه الأرض، بل ويجعل الدكتور الغذامي هذه التعددية من أهم أنظمة العلاقات البشرية الأربع: العدالة، الحرية، المساواة، والتعددية الثقافية. وإن هذا التعدد الثقافي في الايديولوجيا والخبرات والمعارف لا يمكن تجاوزه والقضاء عليه، بل إنه ليس من مصلحة أحد السعي إلى توحيد هذه الثقافات وجعلها تحت مظلة واحدة؛ لأن هذه المذاهب المتعددة في النظر إلى الكليات الكونية والمعرفية تعطينا فرصة لنتعرف على ضيق أفقنا أحيانًا، كما أنها تقدم لنا أجلَّ ما يمكن تقديمه، ألا وهو الحرية؛ فعندما يشعر المرء أن "لآخر" يحترم ثقافته ويتقبلها - عندئذٍ يستطيع الإبداع دون قيود، ويرتقي بالحضارة الإنسانية.

وإن الناظر إلى الواقع الثقافي العربي لَيشعر بالخزي والعار عندما يرى الحضارة العربية متأخرة عن الركْب الثقافي العالمي؛ كل ذلك بسبب الانشغال بتكوين تجمعات ايديولوجية وفكرية وثقافية على حساب مواكبة الركب العالمي المبنيّ على تجاوز العقدة النفسية المكتونة من واقع التعددية الثقافية، وصولًا إلى الإنتاج العلمي الذي يشكّل الحضارات. فترى الوعّاظ والدعاة الإسلامويين يبرزون على المنابر منكرين على الآخرين معتقداتهم، والأدهى من ذلك شعورهم بالشفقة على مخالفيهم، مستهلكين لذلك اللترات من الحبر ودزائن أوراق فيما لا طائل من ورائه – حالمين بالوحدة الايديولوجية الموهومة، ولو أنهم نظروا في التاريخ الإسلامي لأدركوا سذاجة أفعالهم؛ إذ إنه، قطعًا، لم تقم وَحدة أيديولوجية إسلامية منذ أيام الخليفة الراشد عثمان، علمًا بأن الانشقاق كان قبل ذلك، إلا أنه اتخذ صورة المعارضة السياسية أيامَ خلافة عثمان.

أخيرًا، إنه لن تقوم حضارة تواكب حضارة الإنسان، بل وتهدد عرش السماء، دون تقبّل التعددية الثقافية، واعتبارها مهمة، وتجاوزها إلى الحرية، حرية اختيار الفرد لأيديولوجيته الخاصة به دون تنصيب أوصياء عليه!

يا ناطح الجبل العالي يومًا ليُثلبه،،،أشفق على الرأس لا تشفق على الجبل