وريقاتي

Powered By Blogger

16 أبريل 2016

تذوّق يتذوّق تذوّقا!

لقد هوى (أبدأ قولي بلقد التي تأتي في جملة جواب قسم محذوف) مستوى ما يقدم عبر وسائل إعلامنا العربية المختلفة (بوصفها أداة)، وأصبح في قاع مظلم. لقد غدا فأسا يصنع عقولا متشابهة، وذهنيات مسطحة. إن إعلامنا عبارة عن عملية يبدو أنها مخطط لها لتغييب الأفراد، وصرف انتباههم ناحية مواضيع لا تصنع وعيا أبدا. ويكفيك لتتأكد من صحة هذا الادعاء أن تفتح إذاعة محلية وأنت تقود سيارتك من بيتك إلى مقر عملك لتنبعث رائحة الهراء (وأظن أن هناك علاقة وثيقة بين "الهراء" و"الهرّان") مما يقدم. لعل أبسط مثال هو انتقالنا من الاستماع إلى "فكروني" أم كلثوم إلى هراء "أنت معلم واحنا منك نتعلم". أتحدث هنا عن البرامج الحوارية الطويلة، لا تلك الوجبات السريعة. كان ذاك تقديما لما سيلي قوله.
***
تتردد كثيرا في الأوساط المحافظة، والخطابات الأخلاقية، مقولةٌ استطاعت أن تعبر إلى المواد القانونية والدستورية، على الرغم من مطاطيتها، والضبابية التي تحملها، والنسبية التي تصل حد التشتت في تفسيرها. إنها مقولة تمثل فعلا ما ادعاه الجابري في مشروعه النقدي للعقل العربي من أنه عقل أخلاقي بامتياز – إنها مقولة "الذوق العام". لازمت هذه المقولة سياقات متعددة: ابتداء باللغة (الكلام)، وليس انتهاء بلون واجهة البيت. لكن السؤال الكبير التي يمتحن هذه المقولة، ويجعل مردديها من المحافظين في حيرة: ما الذوق العام؟ ومن الذي يحدده ويرسم حدوده؟
في نظري، هذا السؤال المفخخ مشروع جدا. أقول إنه "مفخخ" لأنه يُضمر تقويضا لنسق أخلاقي اجتماعي، ويراد منه تمرير فكرة غير مقبولة. وأقول إنه "مشروع جدا" لأنه يستفز الوعي الجمعي ليُعيد النظر في بنائه المعرفي، ويستعيد ذاته المستلبة (إما في الماضي، وإما شرقا وغربا) بعيدا عن الهوية.
يظن المحافِظ أنه يجيب فعلا عندما يقول "إن المجتمع هو الذي يحدد ذوقه العام". لكن، في الحقيقة، هذه ليست إجابة؛ لأن المجتمع المقصود هنا هو ذلك الكيان الاعتباري المتكون من عدد من الأفراد، ولا يمكن لكيان اعتباري، غير موجود في الخارج ككائن مستقل، لا يمكنه أن يفعل شيئا، فضلا عن صناعته لنسق ذوقيّ. إذن، فما هذه الإجابة سوى مغالطة منطقية تشتت الانتباه عن الفكرة في ذاتها، وتنقل التركيز ناحية التفكير في كيفية صنع المجتمع للذوق، بينما لا وجود موضوعيا لذلك الجسم أصلا؛ وبالنتيجة يضيع الاعتراض المشروع.
إن الإجابة الأدق في أن نحيل مسؤولية تلك الصناعة إلى أشخاص بعينهم، يتحملونها. وإنني أظن أن /ر هذا الذوق منوط بمجموعة من النخب الثقافية والسياسية (يمثلون الرموز) التي يشترط فيها المقبولية عند عدد كبير من الأفراد (يمثلون الجمهور). ومن هنا ينبغي الانطلاق في بحث تلك العلاقة بين الفرد ورمزه في أي مجتمع؛ من أجل وضع أرضية موصوفة ننطلق من فوقها لنستطيع التغيير فيها.
لعلنا نُجابه بالسؤال/العلكة: من هم النخب الثقافية؟ وما تعريف الثقافة؟ ومن هو المثقف؟ في الحقيقة، هذه أسئلة مغالطة كذلك؛ فالثقافة –في أبسط تعريفاتها- أسلوب في العيش، وهي الفنون والآداب اختصارا. وبالتالي فإن المثقفين هم أولئك الفاعلون في هذه المجالات. من حقنا أن نتساءل: هل يعني هذا أن يضع المثقف المسؤولية المجتمعية على رأس قلمه كلما أراد الكتابة عن قضية بعينها؟ نقول إن هذا المجتمع هو كل تلك المعارف والآداب التي صنعته وجعلته على ما هو عليه؛ فالمجتمع أثرٌ، فلا ينبغي قلب المفاهيم لنجعل الفاعل في صنع المجتمع أثرًا؛ فالمثقف حر في صياغته للمجتمع وتحولاته.
صحيح أن هذا الكلام يفترض خلو ذهن الجمهور، واستعداده للتلقي، وهذا أمر بعيد إلا على الورق، إلا أن له حظا من الصحة؛ إذ أن العلاقة بين الرمز والجمهور تكون دائما فاعلة ومؤثرة (من المرسل إلى المتلقي)؛ حيث إن الجمهور (لا سيما النفسي منه) منشدهٌ للرمز حالة كونه جمهورا. لكن ماذا عن وعي الأفراد بعيدا عن كونهم جمهورا؟
حسنا، هنا ينبغي التفريق بين مستويين من الخطاب (بالنظر إلى المتلقي): مستوى جماهيري، ومستوى فردي. فالأول، في طبيعته، مشحون بالعاطفة، ومستوى العقلانية فيه منخفض، في حين أن الخطاب الفردي ينبغي أن يكون على العكس؛ لأن مستوى الوعي عند الفرد، حالة فرديته، يكون عاليا مقارنة بحالة الجمهور. وهذا يستتبع وجود كلا المستويين في الخطاب الثقافي والسياسي.
ثم إن هناك اعتراضا آخر، متمثل في ذلك التفريق الفج للبشر إلى "نخبة" و"عامة"، مفترضين في النخب مدى أوسع للوعي وعمليات الإدراك، مقابل ضيق ذلك عند العامة. إن هذا الاعتراض مفرطٌ في رومانسيته، ولا يعمل سوى لتكريس فكرة المحافظة، وتعطيل عمل المثقف. إذ إن الرموز تملأ مساحة واسعة من وعي الأفراد المستعدين للتضحية بدمائهم وذويهم إذا ما أشار الرمز إلى ذلك؛ مثل: "نموت نموت ويحيا الوطن".
***
يحق لنا أن نتساءل، ونحن نعيش التدفق المعلوماتي للمعارف والخبرات: هل تسمح الوسائل الحديثة للنخب بأن تعتلي منصة "النخبة"؟
كتب الناقد السعودي عبدالله الغذامي كتابا مهما بعنوان "الثقافة التلفزيونية"، وأردفه بعنوان صغير "سقوط النخبة وبروز الشعبي". حقا، إن عرش النخبة يهتز من تحت الجالسين عليه، لكن هذا لا يعني انتفاء وجود الرمز عند الفرد الذي يعيش العولمة؛ إذ يبقى الرمز موجدا حتى وإن اختلف ممثله بالنسبة له. إن الذي فعلته هذه الوسائل أنها صدمت الجمهور ببشرية تلك الرموز، الأمر الذي ولّد رد فعل حانق لرفض مقولة "الثقافة" و"المثقف". لذلك أجدني مضطرا إلى التفريق بين المثقف في حالته الثقافية، والمثقف في حالاته الأخرى؛ وذلك حفاظا على أن يكون الرمز مثقفا وليس ميكافيليا أو شوفينيا أو حالما بثيوقراطيا. لكن، طالما صعب على الفرد أن يفرق بين الحالتين، فإنه ينبغي على الثقف "أن ينتبه للأشياء التي تجعله هو" (على حد تعبير باموق).
***

في المحصلة نقول إن مقولة "الذوق العام" تعبيرٌ عن المعايير الأخلاقية المقبولة في المجتمع، تصنعها النخب الثقافية والسياسية الفاعلة التي –لا شك- أنها تعاني تهديدا وإقصاءً بفعل التدفق المعلوماتي الرهيب؛ فعلى هذه النخب أن تتحرك في سبيل إعادة الاعتبار للفن الرسمي (الذي تتبناه الدولة) كونه صانعا للوعي، بعيدا عن ترديد عبارات المحافظين في الاحتراز من خدش الذوق العام المتردي أصلا.