وريقاتي

Powered By Blogger

2 يوليو 2014

ألم أقل لكم "كفى تصنيفًا"!

عطْفًا على ما سبق، قُدّر لي أنْ أزور محل الحلاقة التي كنت أتردد عليه سابقًا وهجرته لفترة. لا أعلم كيف حصل هذا التوافق؛ أنّي كتبتُ ذاك المقال ثم زرتُ ذاك المحل. تبدو بداية المقال مبهمة وغير واضحة، أستميح القارئ الكريم عذرًا، وألتمس منه الصفح والغفران؛ فإني، لِفَرْطِ الغضب سأكتب بغياب عقل، وحضور عاطفة.
بعد استقبال العامل لي بالفرح لرؤيتي، وجلوسي على كرسي الحلاقة، بدأ حديثنا بسؤالي عن أحواله وأصحابِه. ولقرب العلاقة بيننا فإنه ما ترك شيئًا في صدره، فأفضى إليّ بالكثير عما حدث له في المحل في الآونة الأخيرة. ولِعِلْمي بأنه مسيحيّ (أو نصرانيّ، لا يهمني كثيرًا)، فإني قد حدثته حول ديانته، وانبهر لأني أعلم أنّ الأناجيل المعتمدة أربعة، فبدا متوجّسًا، وعَلَتْ وجهَهُ صُفرة مفاجئة لم أعلم سببها، وسكت هنيهةً، ثم أسرعتُ، دافعًا سوء الظنّ، بقولي [بما معناه]: 'الدين لله، والوطن للجميع'. لاحظتُ ارتياح قسمات وجهه.
رغْم صغر سن العامل، عمره حوالي 18 عامًا، إلا أنه يبدو أنّ الغُربة قد صقلته وكوّنته؛ فقال لي، مستاءً ومتشكيًّا من ضحالة الوعْي في المجتمع: قبل حوالي شهرين، فتح بابَ المحل أحد الأشخاص [الآثمين!] وباغتنا [أي العمّال] بسؤال 'أنت مسلم ولا مافي مسلم؟'. بُهتنا وأخذتنا الجفْلة، فأجبنا: لا، نحن مسيحيون. فأجابنا: 'اها، زين' وفقل عائدًا إلى سيارته، مبتعدًا عن المحل، وبالطبع باحثًا عن محلٍ عمّالُه مسلمون (أو هكذا يدّعون على الأقل!). ثم أتْبَعَ قصته قائلًا: 'الله كريم'.
إذا ما أتينا لتفكيك الحادثة، وتشريحها، في محاولةٍ للنظر إلى ما يكمن وراء شخوصها وأحداثها، ومن ثَمّ إعادة تركيبها بصورتها الجديدة – فإننا سنجد الشخصيات متمثّلةً في: 1) العمّال المسيحيين. 2) الزبون المسلم. كما أنه يجب أنْ نأخذ بعين الاعتبار الظروف التي حدثت فيها الحادثة؛ وهنا ظرفُ 'الصحوة' الإسلامية كما استشففْنا.
أما العمّال المسيحيون، فإن شخصيّتهم 'صِفريّة'، إنْ جاز إطلاق المصطلح هكذا، أيْ بدوا كأنهم لا يحملون أيّ اعتبارات سابقة سواء حول ما سئلوا عنه، أو السائل؛ فكانت إجابتهم موافقةً لما يدعوهم إليهم الكتاب المقدس في سفر الخروج (الإصحاح 23): "لَا تَقْبَلْ أَخْبَارًا كَاذِبَةً، وَلَا تَتَعَاوَنْ مَعَ الْمُنَافِقِ فِي شَهَادَةِ الزُّوْرِ، وَلَا تَنْسَقْ وَرَاءَ الْأَغْلَبِيَّةِ لِارْتِكَابِ الشَّرِّ، وَلَا تُحَرِّفْ شَهَادَتَكَ فِي دَعْوًى انْجِرَافًا مَعَ الْأَكْثَرِيَّةِ، وِلِا تَتَحَيَّزْ مَعَ الْفَقِيْرِ لِأَنَّهُ فَقِيْرٌ فَقَطْ فِي دَعْوَاهَ". وقد عنون الأب إيلي طوبجي لهذا المدخل بـ"الوصية بعدم الكذب إطلاقًا". فإنهم لم يقبلوا أنْ ينقلوا خبرًا كاذبًا عن أنفسهم بأنهم غير مسيحيين. كما، ينعكس عن شخصية العمّال 'صِفريتهم' في رسْم شخصية السائل؛ فهم لم يتوقّعوا أنْ يؤثّر صدقُهم بطريقة لا تعجب الزبون بحيث تجعله الإجابة يعود أدراجَهُ. رغم أنّي أعلم أنّ العمال غير المسلمين عندما يأتون إلى بلداننا يغيّرون أسماءهم؛ فيكون اسم أحدهم، مثلًا، منتو فيغيّره إلى فايز، وأظنّ ذلك عائد إلى وعيهم بضحالة الوعْي في هذه الصحراء!
وأما الزبون-السائل، فإنّ سؤالَه عن ديانة العمّال، وردّةَ فعله – يدلان على شخصية 'صحوية'، تتبع الفتاوى الكثيرة فيما يخص إتيان العمّال غير المسلمين في جزيرة العرب؛ إذ نجد الزبونَ-السائل يحاول تطبيق 'فتاوى علماء البلد الحرام' في جلْب العمّال غير المسلمين قدْرَ المستطاع، فإنه إذ لم يكن بمقدوره تطبيقها حرفيًّا فإنه يتقي الله ما استطاع فلا يملك إلا الإعراض عن هؤلاء الكفّار في محاولةٍ غير مباشرة لإجبارهم على مغادرة جزيرة العرب. لَكَمْ أحْمَدُ الله على عدم تملّكهم للقرار. فمن الفتاوى تلك، فتوى الشيخ ابن باز في كتاب الدعوة، ص 202؛ إذ يقول: "لا يجوز استقدام خادمة غير مسلمة، ولا خادم غير مسلم، ولا سائق غير مسلم، ولا عامل غير مسلم إلى الجزيرة العربية؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بإخراج اليهود والنصارى منها، وأمر ألا يبقى فيها إلا مسلم، وأوصى، عند وفاته، عليه الصلاة والسلام، بإخراج جميع المشركين من هذه الجزيرة. ولأن في استقدام الكفرة من الرجال والنساء خطرًا على المسلمين في عقائدهم، وأخلاقهم، وتربية أولادهم؛ فوجب منع ذلك طاعة لله، سبحانه، ولرسوله، صلى الله عليه وسلم، وحسمًا لمادة الشرك والفساد، والله ولي التوفيق" [عن: الفتاوى الشرعية في المسائل العصرية من فتاوى علماء البلد الحرام، إعداد: د. خالد بن عبدالرحمن الجريسي]
لستُ هنا بصدد الكلام عن الفتوى، والتوقف عندها طويلًا، إلا أنّه يجب، فيما أرى، إعادة النظر فيها، والتوقف عندها، وإمعان النظر فيما وراءها من مصالح ومفاسد؛ فالنصوص الشرعية تُقرأ في ضوء الظروف التي قيلت فيها، والبيئة التي نُطق بها، والنظر في كافّة العوامل التي قد تؤثر فيها. فنحن نعلم، يقينًا، أنّه استمر وجود المسيحيين في جزيرة العرب في حياة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-، يذكر ابن كثير في "البداية والنهاية" نصّ رسالة النبي محمد إلى أسقف نجران في عام الوفود (9 للهجرة)، تجد ذلك في المجلد الخامس (ص55 وما بعدها). وفي عهد الخلفاء الراشدين، يذكر المؤرخون الحادثة الشهيرة لعمر مع الشيخ الكبير المسيحي الذي أبْطَلَ عنه حكم الجزية لِكِبَرِ سنّه وعدم قدرته على إعالة عياله - هذا يدعونا إلى إعادة النظر في تلك النصوص، وإعادة قراءتها وفق ظروفها؛ لأنّ هناك بَوْنًا بين ظاهر النص وتطبيقه مما يدعونا إلى التريّث قبل تطبيق ظاهر النصوص!
هذه الصحوات التي طبعت بفتاويها الشباب الملتزم بطابع الأنا، والذين بدورهم نشروا هذه الفتاوى في المجتمع، فتكوّنت شخصية الزبون-السائل على هذا النحو الرافض للآخر، المنابذ له، الذي يرى في التعامل مع المسيحيّ موالاةً له على حساب العامل المسلم (أو المتظاهر بهذا!). كما أنّها أذكتْ فيهم روح الوصاية على المجتمع، وأنهم هم الحاملون لراية الدين، وهم الحالمون حقًّا!
***
هذه الحادثة، وغيرها، ما هي إلا دلائل على ما كتبتُه في المقال السابق من أنّ التصنيف الديني يستتبع سلوكاتٍ غير إنسانية؛ وإلا فما ذنب هذا العامل الذي ترك أهله ووطنه وأتى إلى هذه الصحراء ثم لا يجد بابًا للرزق، لأجل ماذا؟ لأجل أنّه ولد لأمٍ وأب مسيحيين!

يبدو أنّ هذه الصحراء جرداء حتى من الإنسانية!