وريقاتي

Powered By Blogger

1 يوليو 2015

في حضرة العنقاء والخَل الوفيّ.

رواية إسماعيل فهد إسماعيل: "في حضرة العنقاء والخِل الوفيّ"

أنهيت هذه الرواية التي سلبتني كثيرًا (هذا ليس حكمًا نقديًا، ولا يُعوَّل عليه). رواية قالت عنها سعدية مفرّح عنها: "رواية صعبة ليس على صعيد الكتابة وحدها بل على صعيد القراءة، وأتوقع من المتلقي أن يجتهد كثيرًا في سبيل استخلاص المتع الراسبة بين نهايات الفصول حتمًا".

عنوان الرواية، بما هو العتبة الأولى للنص، يحيلنا إلى البيتين الشهيرين لصفي الدين الحلي:
لما رأيت بني الزمان وما بهم، خِل وفي للشدائد أصطفي
أيقنتُ أن المستحيل ثلاثة: الغول والعنقاء والخل الوفي
وبذلك يصنع إسماعيل جسرًا بين التراث العربي القديم؛ إذ كانت العرب تؤمن بهذه الكائنات الخرافية الثلاثة، وتصنع حولها القصص (الأساطير). وهذه ليست المرة الوحيدة لإسماعيل التي يستخدم فيها ثيمات تراثية يوظّفها في أعماله السردية؛ فهناك عمل بحثي محترم في التراث في روايته "الكائن الظل"، وقد أشار إلى ذلك بنفسه. تتبادر إلى الذهن -في هذه العتبة: العنوان- أسئلة من نوع: هل نحن أمام عمل روائي تاريخي؟ وإذا لا، فكيف وظف هذه الثيمات في سرده؟

نحن أمام سرد يدور زمانه بين 1985 و2010؛ يحكي الراوي العليم فيها عن حوادث قابلت بطل الرواية، اتخذت شكل رسالة مطولة لابنته؛ في محاولة منه تعريفها بأبيها الذي لم ترَه، ولم يرَها. تكنيك إسماعيل في إدخاله زمانين: زمن الكتابة، وزمن مسترجع – وتكويره أحد الزمانين على الآخر، والالتفاتات السريعة، والانتقالات بين زمن الكتابة (مخاطبته للبنت) والزمن المسترجع، كل ذلك يستدعي من القارئ جهدًا مضاعفا لمجاراة السرد، ولعل هذا ما عنته سعدية مفرّح في الاقتباس السابق.

تحكي الرسالة المطولة أحداثًا جرت لبطلها، مكتوبة بلسانه، بما يحيلنا إلى مسألة تأريخ الأحداث بلسان غير محايد، لسان مَن عانى هذه الخبرات وجربها. فكيف كانت هذه الشخصية الراوية؟ هي شخصية نامية بامتياز. لكنها شخصية واعية بامتياز أيضًا. تصنّف الشخصية ضمن فئة "البدون" في دولة الكويت، وهي فئة تشكل عبئًا على كاهل الحكومة، وتحاول الحكومة حل المشكلة بطرائق غير مجدية؛ بدليل استمرارها إلى اليوم. هذه الفئة/الطبقة لا تنسى إنسانيتها، وانتماءها لتربة الكويت؛ فهي –رغم كل التضييقات- تحتفظ بشخصية قد لا تملكها الشخصية الكويتية؛ شخصية الوفي التي أظهرتها المحن (الغزو الصَّدّاميّ للكويت). في مقابل شخصية كويتية (سعود، شقيق زوجة البطل)، الانتهازي رغم كويتيته. شخصية البطل واعية؛ إذ أخذ البطل يعيل أسرته المكونة، منه وأمه، منذ صغره. إلا أنّ حدثًا دفعه لإكمال دراسته والالتحاق بمعهد الفنون الكويتية، حدثًا من كويتيين حقيقيين، إنسانيين لا يصنفون البشر، ولا ينزعون صلاحية الحياة من الآخرين لمجرد كونهم "بدون". فتحول البطل في هذه العتبة من كونه "المنسي" اسمًا على مسمى، وأصبح يحمل اسمًا فنيا "المنسي بن أبيه"، وبذلك امتلك شخصية، والتحق بالمعهد، إلى أن أصبح كاتبًا في جريدة "السياسة" في آخر هذه المرحلة. يحدث أن يلتقي هذا "المنسي" بزوجته "عهود". هذه الشخصية ذات التجارب الزوجية السابقة، الجريئة، العنقاء. أزعم أن تسمية الشخصيتين لم تكونا اعتباطيتين؛ فـ"المنسيّ" ينتمي لفئة منسية (البدون)، و"عهود" مولَعة بالعهود/ النذور، نذور لضريح السيدة زينب في سوريا. كذلك يشي الاسم -بصيغته الجمع- للتلوّن والتجدّد، وتغير العهود/النذور (إعادة إحياء العنقاء من جديد!).

على مستوى اللغة، نعيش جو الروايات الحديثة، مبتورة الجُمل، اشتقاق أفعال وأسماء جامدة. فتراه يصوغ جملته الخبرية ثم ينفيها بحرف واحد ويترك جملته مفتوحة للقارئ (دور القارئ مجددا). بالإضافة إلى كثرة الجمل التقريرية الأشبه بجمل الحِكَم، وتصلح للاقتباسات، وأظن أن على القرائ أن يمسك قلم تحديد لكي يحدد الجمل الرشيقة؛ من مثل: "القراءة تشحذ وعي الواحد تجعله يفهم ما يدور حوله"، "الجهل بارتكاب جريمة حتى إنْ بقيت خفية عن الآخرين لا يعني براءة مرتكبها تجاه نفسه".
في النهاية، أستطيع القول إن إسماعيل فهد -في عمله السردي هذا- قدّم صورة الإنسان البدون/ الخِل الوفيّ، بلغة رشيقة، وسرد أخّاذ.