وريقاتي

Powered By Blogger

14 أكتوبر 2016

النسبوية: التبرير العاجز



دائما هناك من يبرع في تبرير المواقف، حتى تلك التي يعترف هو بعدم جدواها، إلا أنّ مِن معارفه مَن يقف وراءها -وإن كان لا يملك قرارا في الأمر-، ولربما انطلاقا من واجب "المعرفة" ومقتضياتها نراه يوظّف المنطق والخطاب لتبرير وجود ذلك الموقف. بينما هذه الأدوات تقف عند حد "النسبوية"؛ ولا تستطيع الصمود طويلا في الميدان أمام الحقائق.

مدخل لا بد منه/
إن "الحقائق" المشار إليها في المقدمة، والتي لا يصمد أمامها الخطاب البلاغي والمنطقُ موجَّهُ النتائجِ، إنما المقصود بها الإقرار النفسي والداخلي لكل فرد على حدة تجاه القضايا والمواقف، وليست هي الإملاءات الذوقية على الآخرين؛ إذ إن الاعتراض بـ"من يحدد الحقائق؟" يصلح في سياق فرض الآراء والسلوكات على الآخرين، أما الإقرار الداخلي لكل فرد فأمر آخر، ولا تدخل النسبية بين المرء وذاته؛ فاللسان ترجمان القلوب كما يقال، ولا يصح الإقرار بأن ما يقال عكس ما يُعتقد في الحالة الطبيعية (في غياب الإكراه أو الخوف على النفس وغيرها مثلا)؛ وإلا فما استطعنا فهم الرسائل اللغوية بسبب يقيننا بوجود مفارقة بين المنطوق والمقصود، وهذا يضرب أصل اللغات في مقتلها (أقصد وظيفتها في الفهم والإفهام).
***
"النسبوية" هي ظاهرةٌ تبريرية سلبية، يتعلق بتلابيبها كل عاجز عن رد الفعل، فلا يجد حيلة نفسية سوى الانخراط في الفعل مدافعا في وجه ردود الأفعال، ولكي يثبت أن له رأيا وموقفا يسجل. وبسبب العلة التبريرية، انضافت واو الأيدولوجية في صياغة المصطلح؛ فهي "نسبوية" وليست "نسبية"، والفرق بينهما كالفرق بين العلمية والعلموية؛ أن النسبية مما لا يجادل فيها اثنان من ثبوت اختلافات في خصائص الأفراد وبالتالي أفعالهم وردودها، بينما النسبوية فهي توجه يعلّق أفراده كل ما يعجزون عن إقامة رد فعل عليه بشمّاعة النسبية وبالتالي يتمكنون من تبرير وجود حتى أكثر المواقف غباء. وغالبا ما تنطلق دعاوى النسبويين في وجه من يسجلون ردود أفعال حول قضية بعينها - لإنهاء حالة ردود الفعل التي تسبب حالة من الحرج إما لأشخاصهم وإما لمعارفهم وإما لمن لا يملكون تسجيل حالة ضدهم كالسُلطة مثلا؛ لتصبح النتيجةُ المحصلة هي غيابَ حالة النقد الحقيقي للأفكار وتداولها لصالح العلاقات الاجتماعية والسياسية.

يعتمد النسبويون على قاعدة النسبية، لكن ليس لإقرار الاختلاف توصيفا، بل لإقرار السذاجة والمنافحة عنها. فيقولون لك "يا أخي، الناس تختلف في اهتماماتها، دعهم وما يشاؤون". هذا حقٌّ، لكنه يراد به باطل؛ إذ إن الدعوة إلى التزام الصمت يعني غياب النقد وهو عين الباطل. لكن المراد من النقد هو تعريض القضية لأعلى درجات التمحيص حتى يستبين المعدن النفيس من الرخيص، ثم يبقى للإنسان خيارُه، ولا يُصادر منه بأي حجة كانت.

ومن أهم أدوات النقدِ الحجاجُ في إثبات صحة رد الفعل، وبطلان شكل الفعل. ولا يكاد يخلو نقاشٌ من الحجاج، ومجرد الحجاج لا يسلب أحدا حقه في الاختيار؛ حتى القرآن عندما أراد إثبات الوحدانية لله في مقابل التعددية الألوهية، فإنه حاجَجَ بقوةِ "بل هم منها عَمون"، لكنه ما أغفل "لكم دينكم ولي دينِ" في الاختيار.

إن أحكامنا التي نطلقها على المواقف تتنازعها العواطفُ من جهة، والمنطقُ من جهة أخرى، وتبرز الشخصية الفردية بمقدار الابتعاد عن الأحكام الذوقية الساذجة إلى المنطقية الموضوعية.
لكن كيف نعرف ذلك؟
في نظري، لكي نستطيع الحكم بموضوعية ينبغي النظر في مُسببات هذه المواقف، ومآلاتها، والنتائج المرجوّة منها؛ ومتى ما اتّسقت الإجابات عن هذه الأسئلة كان الحكم الموضوعي في صالح الموقف، ومتى تخبّطتْ فإنه يدل على عكس ذلك.
***
النسبوية شماعةٌ واهية، يتعلق بأسمالها كل عاجز عن النقد، مُعجِزٍ للآخرين، مُثقَلةٌ بالسذاجة والغباء، ولا تقدم شيئا حقيقيا موضوعيا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق